الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وإلى هذا ذهب الطيبي وأيده بما أيده وادعى أن فائدة القسم التنبيه على قلع شبه من عسى أن يتصدى لتأويل الآية وتحريف النص القاطع، ونقل عن الإمام أن الآية حجة لصحة مذهب أهل السنة في مسألة خلق الأعمال إرادة الكائنات لأنه سبحانه وتعالى صرح بأنه جل وعلا خلق كثيرًا من الجن والإنس لجهنم ولا مزيد لبيان الله تعالى، ولا يخفى أن الحمل على الظاهر مخالف لظاهر الآية التي ذكرناها، وفي الكتاب الكريم كثير مما يوافقها على أن التعليل الحقيقي لأفعاله تعالى يمنع عنه في المشهور الإمام الأشعري وأصحابه.وقال بعض الجلة: المراد بالكثير الذين حقت عليهم الكلمة الأزلية بالشقاوة ولكن لا بطريق الجبر من غير أن يكون من قبلهم ما يؤدي إلى ذلك بل لعلمه سبحانه وتعالى بأنهم لا يصرفون اختيارهم نحو الحق أبدًا بل يصرون على الباطل من غير صارف يلويهم ولا عاطف يثنيهم من الآيات والنذر، فبهذا الاعتبار جعل خلقهم مغيًا بجهنم كما أن جمع الفريقين باعتبار استعدادهم الكامل الفطري للعبادة وتمكنهم التام منها جعل خلقهم مغيًا بها كما نطق به قوله سبحانه وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] انتهى، وعندي أنه لا محيص من التأويل في هذا المقام فتدبر ولا تغفل، ثم إن الجار الأول متعلق بما عنده وتقديمه على المفعول الصريح لما في توابعه من نوع طول يؤدي توسيطه بما بينهما وتأخيرهم عنهما إلى الإخلال بجزالة النظم الجليل، والجار الثاني متعلق بمحذوف وقع صفة لكثير، وتقديم الجن لأنهم أعرف من الإنس في الاتصاف بما ذكر من الصفات وأكثر عددًا وأقدم خلقًا ولا يشكل أنهم خلقوا من النار فلا يشق عليهم دخولها ولا يضرهم شيئًا لأنا نقول في دفع ذلك على علاته خلقهم من النار بمعنى أن الغالب عليهم الجزء الناري لا يأبى تضررهم بها فإن الإنس خلقوا من الطين ويتضررون به، ويوضح ذلك أن حقيقة النار لم تبق فيهم على ما هي عليه قبل خلقهم منها كما أن حقيقة الطين لم تبق في الإنس على ما هي عليه قبل خلقهم منها على أن المخلوق من نار هو البدن والمعذب هو الروح وليست مخلوقة منها وعذاب الروح في قالب ناري معقول كعذابها في قالب طيني، وقوله تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ} في محل النصب على أنه صفة أخرى لكثير، وقوله سبحانه وتعالى: {لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا} في محل الرفع على أنه صفة لقلوب مبينة لكونها غير معهودة مخالفة لسائر أفراد الجنس فاقدة لما ينبغي أن يكون أو هي مؤكدة لما يفيده تنكيرها وإبهامها من كونها كذلك، وأريد بالقلب اللطيفة الإنسانية، وبالفقه الفهم وهو المعنى اللغوي له، يقال: فقه بالكسر أي فهم وفقه بالضم إذا صار فقيهًا أي فهمًا أو عالمًا بالفقه بالمعنى العرفي المبين في كتب الأصول، والفعل هنا متعد إلا أنه حذف مفعوله للتعميم أي لهم قلوب ليس من شأنها أن يفهموا بها شيئًا مما شأنه أن يفهم فيدخل فيه ما يليق بالمقام من الحق ودلائله دخولًا أوليًا، وكذا الكلام في قوله جل وعلا: {وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا} فيقال: المراد لا يبصرون بها شيئًا من المبصرات فيندرج فيه الشواهد التكوينية الدالة على الحق اندراجًا أوليًا، وكذا يقال في قوله تبارك وتعالى: {وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا} حيث يراد لا يسمعون بها شيئًا من المسموعات فيتناول الآيات التنزيلية على طرز ما سلف، وأمر الوصفية في الأخيرين مثله في الأول، والمراد بالإبصار والسماع المنفيين ما يختص بالعقلاء من الإدراك على ما هو وظيفة الثقلين لا ما يتناول مجرد الإحساس بالشبح والصوت كما هو وظيفة الإنعام، وجاء في كلامهم نحو فلان لا يسمع الخنا أي لا يعتني به ولا يصرف سمعه إليه ولا يقبله، ومن ذلك قول الشاعر:
وفي إعادة الخبر في الجملتين المعطوفتين مع انتظام الكلام بدون ذلك بأن يقال: وأعين لا يبصرون بها وآذان لا يسمعون بها ما لا يخفى من تقرير سوء حالهم، وكذا في إثبات المشاعر الثلاثة لهم ثم وصف كل بما وصف به دون سلبها عنهم ابتداءً بأن يقال: ليس لهم قلوب يفقهون بها ولا أعين يبصرون بها ولا آذان يسمعون بها ما لا يخفى على ما قيل من الشهادة بكمال رسوخهم في الجهل والغواية، وتفسير الآية على هذا الوجه واعتبار حذف المفعول لما ذكرنا من الأفعال الثلاثة هو الذي اختاره بعض المحققين لما فه من الإفصاح بكنه حالهم على ما ىشار إليه، واختار بعضهم التخصيص أي لا يفقهون الحق ودلائله ولا يبصرون ما خلق الله تعالى إبصار اعتبار ولا يسمعون الآيات والمواعظ سماع تأمل وتفكر، وأيًا ما كان فالمراد أنهم لم يصرفوا ما خلق لهم لما خلق له فكأنهم خلقوا كذلك، ولو أريدت الحقيقة لم يتوجه الذم ولم تقم الحجة؛ ومن ادعاها قال: إن ذلك بسبب إفاضة الحكيم حسب الاستعداد الأزلي الغير المجعول فالذم بذلك لادلالته على سوء الاستعداد لأنه كالأثر له، وبالجملة لا تقوم الآية دللًا للجبر الصرف ولو ضم إليها ما قبل، والجبر المتوسط مما قال به أهل الحق وهو لبن خالص أخرج من بين فرث ودم، وحاصله عند بعض المشايخ أن العبد مختار مجبور باختاره، ولعل كلام حجة الإسلام الغزال حث قال من كلام طول: فإن قلت: إني أجد في نفسي أني إن شئت الفعل فعلت وإن شئت الترك تركت فكون فعلي حاصلًا بي ولا بغيري، أجبنا وقلنا: هب إنك وجدت من نفسك ذلك إلا أنا نقول: وهل تجد من نفسك إنك إن شئت أن تشاء شئت وإن شئت أن لا تشأ لم تشأ؟ ما أظنك تقول ذلك وإلا لذهب الأمر فيه إلى ما لا ينهاية له فلا مشيئتك بك ولا حصول فعلك بعد حصول مشيئتك بك وإنما أنت مضطر في صورة مختار انتهى.يرجع إلى ما ذكرنا، وقد استوفينا الكلام في هذا البحث في كتابنا الأجوبة العراقية عن الأسئلة الإيرانية وهو لعمري من مشكلات المباحث التي سأل عنها الإيرانون.{أولئك} أي الموصوفن بالأوصاف المذكورة {كالأنعام} أي في انتفاء الشعور على الوجه المذكور، وقيل في أن مشاعرهم متوجهة إلى أسباب التعيش مقصورة عليها وكأن وجه الشبه مدرك مما قبل فتكون الجملة كالتأكيد له فلذا فصلت عنه {بَلْ هُمْ أَضَلُّ} من الأنعام لأنها تدرك ما من شأنها أن تدركه من المنافع والمضار فتجهد في جلبها وسلبها غاية ما يمكنها وهؤلاء ليسوا كذلك حيث لم يميزوا بين المنافع والمضار بل يعكسون الأمر فيتركون النعيم ويقدمون على العذاب الأليم، وقيل: لأنها إذا زجرت انزجرت وإذا أرشدت إلى طريق اهتدت وهؤلاء لا يهتدون إلى شيء من الخيرات.وقيل: لأنها لم تعط قدرة على تحصيل الفضائل وهؤلاء أعطوا ولم ينتفعوا بما أعطوا، ولأنها وإن لم تكن مطيعة لم تكن عاصية وهؤلاء عصاة فهم أسوأ حالًا منها.وقال بعضهم: لأنها تعرف صاحبها وتذكره وتطيعه وهؤلاء لا يعرفون ربهم ولا يذكرونه ولا يطيعونه، وبالجملة كون هؤلاء أضل مما لا شك فيه ووجوه ذلك كثيرة ولا تنافي بين الخبرين كما لا يخفى.{أولئك} أي المنعوتون بما ذكر من مثلية الأنعام والشرية منها {هُمُ الغافلون} أي الكاملون في الغفلة عما فيه صلاحهم.وقال عطاء: عما أعد الله تعالى لأوليائه من الثواب ولأعدائه من العقاب، وجعل بعضهم هذه الجملة كالبان للجملة قبلها فلذا فصلت عنها. اهـ. .قال الشوكاني: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ}.{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا} أي خلقنا.وقد تقدّم بيان أصل معناه مستوفى، وهذه الجملة مقرّرة لمضمون ما قبلها، {لِجَهَنَّمَ} أي: للتعذيب بها {كَثِيرًا} أي خلقًا كثيرًا {مّنَ الجن والإنس} أي من طائفتي الجنّ والإنس، جعلهم سبحانه للنار بِعَدْ لِه، وبعمل أهلها يعملون.وقد علم ما هم عاملون قبل كونهم، كما ثبت في الأحاديث الصحيحة، ثم وصف هؤلاء فقال: {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا} كما يفقه غيرهم بعقولهم.وجملة {لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا} في محل رفع على أنها صفة لقلوب.وجملة {لَهُمْ قُلُوبٌ} في محل نصب صفة ل {كثيرًا} جعل سبحانه قلوبهم لما كانت غير فاقهة لما فيه نفعهم وإرشادهم، غير فاقهة مطلقًا، وإن كانت تفقه في غير ما فيه النفع والرشاد فهو كالعدم، وهكذا معنى {وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءاذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا} فإن الذي انتقى من الأعين هو إبصار ما فيه الهداية بالتفكر والاعتبار، وإن كانت مبصرة في غير ذلك، والذي انتقى من الآذان هو سماع المواعظ النافعة، والشرائع التي اشتملت عليها الكتب المنزلة.وما جاءت به رسل الله، وإن كانوا يسمعون غير ذلك.والإشارة بقوله: {أولئك} إلى هؤلاء المتصفين بهذه الأوصاف كالأنعام في انتفاء انتفاعهم بهذه المشاعر، ثم حكم عليهم بأنهم أضلّ منها، لأنها تدرك بهذه الأمور ما ينفعها ويضرّها، فينتفع بما ينفع، وتجتنب ما يضرّ، وهؤلاء لا يميزون بين ما ينفع وما يضرّ باعتبار ما طلبه الله منهم وكلفهم به، ثم حكم عليهم بالغفلة الكاملة لما هم عليه من عدم التمييز الذي هو من شأن من له عقل وبصر وسمع.وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا} قال: خلقنا.وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن الحسن في الآية قال خلقنا لجهنم.وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، وابن النجار، عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لما ذرأ لجهنم من ذرأ كان ولد الزنا ممن ذرأ لجهنم» وأخرج ابن جرير، عن مجاهد، في قوله: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ} قال: لقد خلقنا لجهنم {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا} قال: لا يفقهون شيئًا من أمور الآخرة {وَلَهُمْ آذانٌ لاَّ يَسمَعُونَ بِهَا} الهدى {وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا} الحق، ثم جعلهم كالأنعام، ثم جعلهم شرًا من الأنعام، فقال: {بَلْ هُمْ أَضَلُّ} ثم أخبر أنهم الغافلون. اهـ..قال ابن عاشور: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ}.عطف على جملة: {واتلُ عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا} [الأعراف: 175]، والمناسبة أن صاحب القصة المعطوف عليها انتقل من صورة الهدى إلى الضلال، لأن الله لما خلقه خلقه ليكون من أهل جهنم، مع مالها من المناسبة للتذييل الذي ختمت به القصة وهو قوله: {من يهد الله فهو المهتدي} [الأعراف: 178] الآية.وتأكيد الخبر بلام القسم وبقد؛ لقصد تحقيقه لأن غرابته تُنزل سامعه خالي الذهن منه منزلةَ المتردد في تأويله، ولأن المخبرَ عنهم قد وصفوا بـ {لهم قلوب لا يفقهون بها} إلى قوله: {بل هم أضل}، والمعني بهم المشركون، وهم ينكرون أنهم في ضلال ويحسبون أنهم يحسنون صنعًا، وكانوا يحسبون أنهم أصحاب أحلام وأفهام، ولذلك قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم في معرض التهكم {قلوبنا في أكنةٍ مما تدعونا إليه وفي آذاننا وَقْرٌ} [فصلت: 5].والذرْء الخلق وقد تقدم في قوله: {وجعلوا لله مما ذَرَأ من الحرث والأنعام نصيبًا} في سورة الأنعام (136).واللام في {لجهنم} للتعليل، أي خلقنا كثيرًا لأجل جهنم.وجهنم مستعملة هنا في الأفعال الموجبة لها بعلاقة المسببية، لأنهم خلقوا لأعمال الضلالة المفضية إلى الكون في جهنم، ولم يُخلقوا لأجل جهنم، لأن جهنم لا يقصد إيجاد خلق لتعميرها، وليست اللام لام العاقبة؛ لعدم انطباق حقيقتها عليها، وفي الكشاف جعلهم لاغراقهم في الكفر، وأنهم لا يأتي منهم إلا أفعال أهل النار، مخلوقين للنار دلالة على تمكنهم فيما يؤهلهم لدخول النار أ هـ، وهذا يقتضي أن تكون الاستعارة في {ذرأنا} وهو تكلف راعى به قواعد الاعتزال في خَلق أفعال العباد وفي نسبة ذلك إلى الله تعالى.وتقديم المجرور على المفعول في قوله: {لجهنم كثيرًا} ليظهر تعلقه بـ {ذرَأنَا}.ومعنى خلق الكثير لاعمال الشر المفضية إلى النار: أن الله خلق كثيرًا فجعل في نفوسهم قُوَى من شأنها إفساد ما أودعه في الناس من استقامة الفطرة المشار إليها في قوله: {وإذْ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى} [الأعراف: 172] وهي قوى الشهوة والغضب فخلقها أشد سلطانا على نفوسهم من القوة الفطرية المسماة الحكمة، فجعلت الشهوةُ والغضب المسمّيْن بالهوى تغلب قوة الفطرة، وهي الحكمة والرشاد، فترجح نفوسهم دواعيَ الشهوة والغضب فتتبعها وتُعرض عن الفطرة، فدلائلُ الحق قائمة في نفوسهم، ولكنهم ينصرفون عنها؛ لغلبة الهوى عليهم فَبِحَسَب خلقة نفوسهم غير ذات عزيمة على مقاومة الشهوات: جُعلوا كأنهم خلقوا لجهنم، وكأنهم لم تخلق فيهم دواعي الحق في الفطرة.
|